صدمة
جاء موعدي مع طبيب الأورام، ذهبت وأنا مطمئنة القلب فلقد أخبرني
الطبيب الجراح أنني لن أحتاج علاجاً كيماوياً، جلست في غرفة الانتظار ومقولته "
لا يضحكوا عليك ويعطوك كيماوي" ترن في أذني. وصلت للمستشفى قبل الساعة
الثامنة صباحاً. كان النعاس يغلبني لأنني لم أنم ليلة الأمس بسبب بكاء صغاري وآلام
ما بعد الجراحة وآلام تحرك السلك المعدني في جسدي. غرفة الانتظار مكتظة بالمرضى،
فهذه تبكي وهذه تدعو وهذه تقص قصة ألمها ومعاناتها وهذه تقرأ القرآن وأخرى تسأل عن
تساقط الشعر بعد العلاج الكيمياوي وثانية تتحدث عن تأثر الجلد بعد العلاج
الإشعاعي، هذا هوَّ حال غرفة الانتظار في عيادات الأورام فيها يبث الألم والأمل
ومنها يفيض الخوف والرجاء. انتظرت طويلاً رغم أن موعدي الساعة التاسعة، توقعت ذلك
فلقد سمعت عدة مريضات يتحدثن أنهن يعرفن الطبيب شخصياً وأنهن قادمات من غير موعد!
مازلت أتذكر تفاصيل ذلك اليوم وكأنه بالأمس, شكل الغرفة, إضاءتها,
برودتها وأصوات المراجعات المتداخلة.
طال الانتظار إلى ما بعد الساعة الثانية عشرة ظهراً، تضايقت كثيراً
فأنا متألمة وقلقة وتركت صغاري لفترة طويلة. انتهى وقت العيادة ولَم يناديني أحد.
ذهبت للاستقبال فقالوا انتهت العيادة وقد يكون الطبيب قد غادر وأخبروني أن أذهب
للعيادة وأبحث عنه. ركضت وقد استشطت غضباً، كيف يحدث هذا وأنا لديَّ موعدٌ رسميٌ,
ما هذا الاستهتار؟
سألت عن الطبيب ووجدته أمامي مع مساعديه أخبرته أن لدي موعد، فأخذ
تقاريري وقرأها على قارعة الطريق نظر إلي وقال من غير أي مقدمات تلطيفية
ستحتاجين عدة جلسات من العلاج الكيماوي. لقد كان الخبر صادماً لأنني لم أتوقع
ذلك. شعرت بدوار ولحسن الحظ كانت هناك أريكة بجانبي استندت عليها لتفادي السقوط,
مازلت أذكر لونها, شكلها وملمسها عندما أحكمت قبضة يدايَّ متمسكة بها. ضاقت بيَّ
الأرض بما رحبت وصمتت لبرهة، وانهمرت الدموع على وجنتي، ثم قلت له باكية، لكن
الطبيب الجراح قال لي لن تحتاجي علاجاً كيماوياً كما أن لدي أطفال رضع من سيرعاهم
عندما أبدأ العلاج؟ كما أنه ليس هناك متسع من الوقت لأن زوجي في كندا وأحتاج أن
أسافر في أقرب وقت. ولا أدري ماذا قلت أيضاً فمن وقع الصدمة لم أكن واعية بما
أقول. نظر لي الطبيب باستغراب بسبب كلامي غير المنطقي. كان الوضع صعباً وأحتاج أن
أتحدث مع الطبيب في العيادة وليس في الممر ولدي العديد من الأسئلة وهذه من أبسط
حقوقي كمريضة، لكن للأسف لم يقدرها هذا الطبيب. للأسف اضطررت استخدام سلاح لم أكن
أنوي استخدامه، عرفت الطبيب باسم والدي ووالدتي لعله يكون من زملائهم. وكانت
المفاجأة فقد كانت أمي رحمها الله أستاذته في كلية الطب. تغير الموقف مئة وثمانين
درجة ودعاني الطبيب للعودة لعيادته لمناقشة حالتي وللرد على أسئلتي.
من شدة وقع الصدمة لم أسأل كثيراً، لكنني أخبرته أنني سأحتاج إلى
عملية جراحية لإزالة السلك المعدني الذي سافر من ثديي الأيمن إلى كتفي الأيسر
أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (التفاصيل في الحلقة الخامسة). الشيء الذي
كان يهمني في ذلك الوقت ترتيب الأحداث، العملية أولاً أم العلاج الكيماوي (الذي
كنت أفكر في أن أرفض أخذه!)، لا سيما وأنني أريد السفر إلى زوجي في كندا في أقرب
فرصة ليلتم شمل أسرتنا من جديد. كان اقتراح الطبيب أن أقوم بإجراء العملية أولاً
لكي أبدأ العلاج الكيماوي وليس لدي شيء آخر يزعجني ويؤلمني، فآثار العلاج الكيماوي
الجانبية تكفي لمواجهتها لوحدها.
عدت للمنزل وأنا أجر ألمي وحزني، تذكرت معاناة أمي رحمها الله مع
العلاج الكيماوي، من ضعف ووهن، وقيء وغثيان وأصعب في الموضوع تساقط الشعر. بكيت
كثيراً وتناقشت مع والدي في الموضوع وقررت أخذ رأي آخر، ربما يوافق رأي الطبيب
الجراح ولا أحتاج للعلاج الكيماوي.
البحث عن البدائل
فِي أثناء انتظار قدوم موعدي، كنت أبحث في مجالات العلاج التكميلي
المختلفة، التي لم تكن هناك مصادر متعددة لها مثل هذه الأيام. كانت هناك بعض الكتب
في المكتبات التي تتحدث عن الحميات الغذائية المختلفة والتوقف عّن اللحوم
والسكريات ومنتجات القمح ومنتجات الألبان وغيرها وكانت تردني الاقتراحات والنصائح
من كل مكان، أحسست بالضياع والتشتت فذهبت إلى طبيبة تركت الطب التقليدي واتجَهت
للطب التكميلي لاستشارتها. كانت الطبيبة تستقبل المرضى في شقة وليست عيادة مرخصة
فهيَّ مجتهدة في هذا المجال. تحدثت معي في عدة أمور وركزت كثيراً على موضوع إيقاف
السكريات، وقصت لي قصة والدها الذي كان يعاني من سرطان البنكرياس وأن طريقتها
أسهمت في تقلص الورم وتحسن حالته. خرجت من عندها وأنا أكثر حيرة، وشعرت أن تحقيق
ما تقوله قد يكون هراء, وقد يكون ضرباً من الخيال( تبين لي بعد سنوات أن الامتناع عن
السكر المصنع وتقليل السكريات الطبيعية عامة له أثر إيجابي على الصحة والمناعة
وسأتحدث لاحقاً عن تجربتي مع الطب التكميلي) . تذكرت كيف كنت أتناول "الحلاوة
الطحينية" بشراهة بعد ولادتي لأزيد من معدل إدرار الحليب، تساءلت، هل يكون
تناول نسبة السكريات العالية سببت في إصابتي بالسرطان؟ لقد كان هذا إحدى التساؤلات
التي تردني من حين لآخر وتساؤلات أخرى مثل هل يكون تفاعل البلاستيك لقوارير المياه
التي كنت أقوم بتجميدها (لعدم استطاعتي شرب الماء إلا مثلجاً فترة حملي)؟ هل هوَّ
تناول اللحوم؟ هل هيَّ العين؟ لا أنكر أن العين حق وأنني كنت مقصرة جداً في
التحصين والأذكار، لكن لا أحد يستطيع الجزم في هذه الأسباب والعلم عند الله.
المزيد من الصدمات: لا مفر من القدر
وجاء موعدي الثاني عند طبيب الأورام، كنّت متحمسة للموعد فقد سمعت
عن مهارة وخبرة هذا الطبيب الواسعة على مستوى البلاد. دخلت غرفة الفحص، كان الطبيب
رجلاً وقوراً، نبرة صوته الهادئة تبث الطمأنينة في النفوس وترحيبه وتحيته الراقية
تبدد القلق. بدأ في الحديث ومناقشة حالتي، وأكد عليَّ أنني سأحتاج عدة جلسات من
العلاج الكيماوي، للأسف لم أسمع منه ما كنت ما أتمناه ويبدو أنه لا مفر من القدر. أعاد
الطبيب على مسامعي أهمية عمل فحص الجينات, وإجراء عمليات استئصال وقائية ثم بدأ في
نقاش الآثار الجانبية المحتملة للعلاج الكيماوي والتي أعرف كثيراً منها بسبب
معاناة والدتي رحمها الله، لكن ما استجد عليَّ هوَّ ما قاله الطبيب عن التأثير
المحتمل على قدرتي الإنجابية, قال الطبيب: ستنقطع عنك الدورة الشهرية أثناء العلاج
الكيماوي وقد لا تعود مجدداً وهذا يعني أنك قد لا تكونين قادرة على الإنجاب مرة
أخرى. صمتت من وقع هذا الخبر الصادم وانهمرت دموعي تلقائياً، فقال الطبيب مواسياً:
الحمد لله لديك اثنين من الأبناء وهناك أمل أنك تستطيعين الإنجاب مجدداً لأنك مازلت
صغيرة بالسن، نحن نخاف أكثر مع السيدات الأكبر سناً واللاتي أعمارهن تقارب سن
اليأس.
حمدت الله في نفسي على نعمة الذرية ولكن سبحان الله المال والبنون
زينة الحياة الدنيا وأنا أتمنى إنجاب المزيد من الأطفال. في ذلك الزمن لم يكن
الأطباء يناقشون خيار إزالة وتجميد المبيضين وأنسجتهما وبويضاتهما غير الملقحة
أثناء فترة العلاج لحمايتهما من آثار العلاج الكيماوي الذي قد يوقف عملهما , ليتم
زرعها من جديد في جسم المريضة بعد انتهاء العلاج لتتمكن المريضة من الإنجاب لاحقاً
بأمر الله,حينها لم تكن قد صدرت بعد فتوى بجوازهذه التقنية الطبية ( سبحان الله و أنا
أكتب تدوينتي هذه وصلتني رسالة من الدكتورة الفاضلة والأم الحنون د.سامية العمودي أضاءت
تلك الرسالة شاشة هاتفي وكانت تحمل خبراً ساراً في طياتها وهوَّ صدور فتوى هيئة
كبار العلماء بجواز هذه التقنية الطبية التي تحمل أملاً لمريضات السرطان
الشابات اللاتي كان هاجس فقدان القدرة على الإنجاب يلاحقهن, مثلما لاحقني منذ
أربعة عشر عاماً, فالحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه وكل الشكر
والتقدير للدكتورة سامية وكل من دعمها ولهيئة كبار العلماء).
حكمة الله
وهنا تجلت حكمة الله تعالى، تذكرت حملي الثاني الذي كان رزقاً من
الله من دون أي تخطيط، تذكرت الهجوم الذي واجهته ممن هم حولي لقصر المدة الزمنية
بين حملي الأول والثاني (الفرق طفلي الأول والثاني عام وثلاثة أشهر)، كان من حولي
يرون أن ما حدث كان ضرباً من الجنون بالذات أن حملي صعب جداً (كنت أصاب بفرط
القيء في الحمل Hyperemesis
gravidarum (HG)
وأحتاج أن أرتاد المستشفى طوال حملي لأخذ المحاليل، فقد كان عدد مرات القيء يصل
لأربعين مرة في اليوم. في بداية حملي، عانيت كثيرا ً عندما كنت أضطر الذهاب
للمستشفى ولديَّ رضيع لم يتجاوز عمره عام، والأصعب من ذلك وجودي في المنطقة
الشرقية بعيداً عن أهلي وأهل زوجي. بالطبع كان التخطيط أن يكون الفرق بين الحملين
أكبر، لكن التخطيط الإلهي كان نافذاً لحكمة لا يعلمها إلا الله، استشعرت حكمة
الله ومنه وجوده وكرمه ذلك اليوم، ماذا لو لم أرزق بطفلي الثاني؟ لبقي طفلي الأول وحيداً للأبد أو لسنوات طويلة،
فلقد أخبرني الطبيب أنه عليَّ الانتظار خمس إلى عشر سنوات على الأقل قبل أن أفكر
في الحمل مجدداً. منذ ذلك اليوم ولساني لم يفارق دعاء " رب لا تذرني
فرداً وأنت خير الوارثين" في قيامي وقعودي وصلاتي وسجودي.
ارتحت جداً لتنظيم وترتيب المستشفى، وقررت أن أتلقى العلاج
الكيماوي بها.
تم تحديد موعد بداية العلاج ولكن سيكون بعد عملية إزالة
السلك.
وجاء اليوم المنتظر لعملية إزالة السلك المعدني،
ذهبت لقسم الأشعة لتحديد موقع السلك لمساعدة الجراح ليتجه لإزالته
مباشرة، دخل طبيب الأشعة، وكان زميلاً لوالديَّ واحتفى بوجودي وأبدى حزنه لمعاناتي
ودعا كثيراً
لأمي رحمها الله وقال لقد اختار الله والدتك لتكون بجواره فهناك
أناس من طهرهم ونقائهم يكون المكان الأنسب لهم أن يكونوا بجوار ربهم ويرحلون من
هذه الدنيا بسلام
Your mother was so good to live in this world.
قام الطبيب بتحديد موقع السلك عن طريق الأشعة السينية والموجات فوق
الصوتية واستخدم قلماً لتحديد الموقع على كتفي.
اتجهت إلى غرفة العمليات، لوحت بيدي لوالدي وأهلي واستقبلني الطبيب
الجراح بلطف وابتسامة ودعاء كان برداً وسلاماً على قلبي، بدأ مفعول التخدير
وكعادتي بدأت في أذكاري ليطمئن قلبي من الخوف الذي ينتابني قبل فقدان الوعي من
التخدير، إلى أن تلاشت أضواء الكشافات المنعكسة في وجهي إعلاناً بغياب وعيي بمفعول
المخدر.
أفقت على صوت الطبيب الجراح وهوَّ يقول حمداً لله على سلامتك يا ابنتي،
لقد
انتهت العملية بسرعة وكانت سهلة ميسرة بفضل الله
It was a piece of cake
ناولني علبة بلاستيكية ذات غطاء أحمر، تشبه تلك العلب المستخدمة في
جمع عينات التحاليل وقال: تفضلي هذه هدية لك، ليطمئن قلبك. نظرت إلى داخل العلبة
وإذا بدخالها السلك المعدني ذا السنتيمترات الأربع المنتهي بخطاف! تعرفت عليه بصعوبة لأنني مازلت
تحت تأثير المخدر.
وفِي طريق الخروج من قسم الإفاقة، إذا بي أرى الجراح الذي ترك
السلك في جسدي، ويالها من مصادفة! رفعت
العلبة ذات الغطاء الأحمر وأنا أشعر بشعور المنتصر وكأنني أرفع كأس فوزٍ في السباق.
ناديت الجراح بصوتي الذي كان يخرج بصعوبة وقلت له: انظر يا دكتور هذا هوَّ السلك
الذي قلت لي أن إزالته صعبة أو غير ممكنة، لقد تمت إزالته بفضل الله في عملية
جراحية لم تتجاوز النصف ساعة. كأنني لمحته وهوَّ ينظر إليَّ ولا أدري هل رآني أو
سمعني فعلاً.
تساءلت في نفسي، لماذا لم يتعاون معي رغم سهولة الموضوع، هل لأن
إزالة السلك من جسدي سيكون شاهداً يقر خطأه؟ أياً كان السبب الحمد لله الذي أكرمني
ويسر عملية الإزالة بسلام. مازالت آثار هذه العملية في كتفي الأيسر تحكي تفاصي تلك
القصة كلما رأيتها. بالإضافة إلى ذلك لقد كانت عبارة"لايضحكو عليك ويعطوك كيماوي" التي أطلقها هذا الجراح عبارة مضللة بنيت عليها آمالاً,لكن هذا لم يكن اختصاصه,فقد تبين لي بعد حين من أطباء الأورام أن الكيماوي كان ضرورة بسبب عدة عوامل منها صغر سني ونشاط الورم,فحجم الورم ومرحلة المرض ليست العوامل الوحيدة التي يتم بناء القرار عليها.
بعد التئام جرحي وتشافي جسدي بعد العملية الجراحية، آن الأوان لأبدأ رحلة جديدة وفصلاً جديداً من فصول قصتي مع سرطان الثدي، إنه الفصل الأصعب من فصول القصة، إنه العلاج الكيماوي .

ملاحظة:لكتابة تعليق الرجاء الضغط على عنوان المقال بالأعلى أو كلمة تعليقات أسفل المقال ليظهر المكان المخصص للتعليقات.
ردحذف