الحلقة الخامسة:سلك معدني يسافر في جسدي
فبراير-مارس/2005
الصورة من تصوير الصديقة د.لورا مورلوك Photo by My Friend: Dr.Laura Morlok
التقرير والحقيقة
تراكمت
تقاريري الطبية ولَم أستطع مراجعتها والاطلاع عليها مع شدة الألم والانشغال بجلسات
العلاج ورعاية صغاري وعدم الاستقرار حيث كنت أتنقل بين منزل والدي وشقة أهل زوجي في جدة(فهم يسكنون في ينبع الصناعية).
مع
شدة الألم والمعاناة قررت الاطلاع على التقارير علني أَجِد إجابة أو تفسيراً لما
حدث في التصوير بالرنين المغناطيسي من آلام مبرحة وظهورٍ لكتلةٍ غريبة قرب كتفي( التفاصيل في الحلقة الرابعة).
بدأت
مراجعة التقارير وفجأة وجدت تقريراً من قسم الأشعة، صَدَرَ يوم إجراء عملية
استئصال الورم، ولا أتذكر أنني قرأته من قبل.
التقرير
فيه تفاصيل ما حدث أثناء عملية تحديد الورم بالسلك المعدني وذُكر فيه أن هناك
سلكاً دخل خطأً إلى داخل عضلات القفص الصدري وعلق الخطاف هناك وتم تصويره
بأشعة الماموجرام ليتم تتبعه وإزالته في العملية. التقرير والتصوير
كان موجهاً للطبيب الجراح لكي يقوم بإزالة هذا السلك والسلك الذي تم
تحديد الورم به تحديداً صحيحاً ومعه الورم طبعاً. وقتها تذكرت ارتباك طبيبة الأشعة
وعرفت سبب وجود سلكين بدلاً من سلك تحديد واحد وأيضاً عرفت سبب عمل الماموجرام في
ذلك اليوم (التفاصيل في الحلقة الثانية).
وهنا
خطر على بالي سؤال هل أزال الطبيب الجراح ذلك السلك الذي تم إدخاله بالخطأ؟
ذهبت
لطبيبة الأشعة لأستفسر عما حدث فشرحت لي التفاصيل وأخبرتني أنها بالإضافة إلى
التقرير تحدثت هاتفياً مع الجراح بخصوص موضوع السلك. لقد أرضت ضميرها وأخلت مسؤوليتها.
حينها
أحسست أن رأسي يدور، تذكرت زيارتي للطبيب الجراح وكيف أنه لَم يتحدث عن هذا
الموضوع ورماني بالهلوسة والجنون، إنه ينكر خطأً طبياً فادحاً وكبريائه كان مقدماً
على مصلحتي كمريضة.
ذهبت
إلى طبيب العلاج بالأشعة وأخبرته بما حدث، طلبت منه أن يساعدني في التواصل مع
الجراح لأنه أنكر ما حدث أمامي. اعتذر الطبيب أنه من الصعب عليه مواجهة الجراح.
ذهبت
إلى قسم ال MRI، ما يهمني الآن أن أَجِد
من يدعمني للتواصل مع الجراح لفهم قصة السلك، أتراه قد تركه مكانه أثناء عملية
إزالة الورم فتحرك من ثديي الأيمن إلى كتفي الأيسر مروراً بثديي الأيسر؟
قابلت المشرف على وحدة الرنين المغناطيسي فأخذني إلى رئيس القسم، إنني أعرف هذا
الطبيب فهناك رحم بيننا حسب ما سمعت من والدتي رحمها الله اطمأن قلبي أيضاً فطالما سمعت عن مهارته واحترافيته, فهوَّ طبيب أشعة استشاري حاصل على الزمالة من إحدى أعرق المستشفيات الكندية, سمع قصتي، عاين التقرير
و ال MRI وصورة ال X-ray، قال سبحان الله قصة غريبة أستطيع أن أجزم
وأحلف بالله أن هذا السلك سلك تحديد الأورام وقد تحرك من ثديك الأيمن إلى كتفك
الأيسر، نظر إلى صورة الأشعة وأشار للسلك وقال: هذا السلك وفِي نهايته الخطاف،طول السلك حوالي أربعة سنتيمترات. لا
يمكن لأي جراح أو طبيب أشعة أن يخطئه أولا يعرفه, ووقف مذهولاً هوَّ والأطباء
المتدربين معه. استفسر عن صحتي وحزن عندما علم بتشخيصي بسرطان الثدي في عمرً صغير
وقال: يؤسفني أنك تمرين بمعاناةٍ أخرى إلى جانب معاناتك مع السرطان، هذا السلك يجب
أن تتم إزالته، لأنك ستحتاجين عمل ال MRI ما بين كل ستة أشهرإلى عام وليس من المعقول أن يبقى هذا السلك
ليتحرك كل مرة مقطعاً أنسجة جسدك، احمدي الله تعالى أنه لم يذهب لقلبك أو رئتك محدثاً
نزيفاً داخلياً كنّا سنجهل سببه. في تلك اللحظات تخيلت كلام الطبيب ورأيت نفسي
أخرج من جهاز MRI ميتة ً بسبب النزيف
الداخلي المجهول، بكيت كثيراً وحمدت الله تعالى أنه بلطفه أنقذني من الموت ووجه
السلك لكتفي لا لقلبي أو رئتي، مازلت أخشى الموت من السرطان وها أنا ذا كنت سأواجه
سبباً آخر قد يؤدي لوفاتي.
لملمت
شتات نفسي وطلبت من الطبيب أن يساعدني في التواصل مع الجراح لأبحث معه موضوع
إزالة السلك ولفهم القصة، هل هوّ سلك واحد فقط وهل الجزء الذي تركه بنفس طول وحجم
السلك الذي رأيناه في صورة الأشعة، وعدني رئيس القسم أنه سيفعل سيتحدث مع
الطبيب الجراح، وطلب مني مراجعته. في اليوم التالي جئت مسرعة إلى مكتب رئيس القسم، طرقت الباب، فوجدته واجماً، نظر إلي وقال لقد تحدثت مع الطبيب الجراح وأنا
مصدوم من ردة فعله، إنه لا يريد الاعتراف بخطئه وقال لي كلاماً شديداً لا أستطيع أن
أقوله لك، حتى وإن كان في مقام أباءنا وأساتذتنا، مع احترامي لمكانته، أمانتي
الطبية تحتم عليَّ أن أقول الحق وأؤكد لك أنه ترك السلك في جسدك، من حقك أن تعرفي
ذلك حتى وإن أراد الطبيب الجراح الإنكار وإخفاء الموضوع فلن أتعاون معه. شكرت
الطبيب وسألته السؤال الأهم هل القطعة التي رأيناها من السلك في الأشعة هيَّ
القطعة الوحيدة التي تركها الطبيب الجراح؟ أطرق رأسه حزيناً وقال للأسف لم أستطيع
الحصول على هذه المعلومة، لكن لا تقلقي بإذن الله سيكون من السهل إزالة السلك من
كتفك بعد أن يتم تحديد موقعه من قسم الأشعة أو باستخدام جهاز الأشعة C-Arm في غرفة العمليات.
كانت
مشاعري متضاربة بين الحزن والغضب لكنني حمدت الله أن الدنيا مازالت بخير وأن ضمير
هذا الطبيب كان حياً رغم الضغوط التي واجهها، لقد أرضى ربه وضميره قبل أن يعرف أن
هناك رحماً بيننا, فقد أخبرته بذلك لاحقاً وبالإضافة إلى ذلك فإن والدتي رحمها
الله كانت أستاذته (كانت أمي تُدَرِس مادة أمراض القلب والأوعية الدموية
لطلبة/طالبات السنة الخامسة والسادسة بكلية الطب بحامعة الملك عبدالعزيز بجدة). لقد انقذتني عناية الله ثم أمانة واحترافية كلٍ من مشرف الوحدة ورئيس قسم ال MRI ولن أنساهما من دعائي ولن أنسى معروفهما وجميلهما ما حييت.
وبينما
أنا أمشي متثاقلة الخطى من حزن قد كبلني وهم قد أثقلني، رأيت خالتي الحبيبة ابنة
خال والدتي رحمهما الله التي أحبها كثيراً ومجرد النظر لوجهها يشعرني بالراحة،
وكأن الله أرسلها لي في ذلك الوقت العصيب. سلمت عليها وجلسنا في غرفة الانتظار
وقصصت لها قصتي كاملة وكانت صدمة بالنسبة لها فهيّ لم تسمع عن مرضي فقد أخفيت
الأمر عن تقريباً عن الجميع إلا عائلتي وعائلة زوجي المباشرة. قسمات وجهها المريحة
ونبرة صوتها الهادئة خففت عني كثيراً. سبحان الله الذي يرتب الأحداث فيرسل لنا ما
يخفف عنا ونحن في قمة الألم.
المواجهة: عندما يكون كبرياء الطبيب مقدمٌ على مصلحة المريض
بعد النقاش مع والدي
ووالد زوجي وخالتي قررنا الذهاب لمواجهة الطبيب الجراح، لأنه يحب علينا أن نعرف ما
الذي تم تركه تماماً في جسدي، قطعة واحدة من السلك أم أكثر.
ذهبنا لمقابلته أنا
ووالدي وأخي وخالتي وأخبرتهم أنني أريد التحدث معه بنفسي، قالو نسأل الله أن يكون
في عوننا لنتمالك غضبنا، دخلنا العيادة وإذا به يقول عندما رآني، هل تريدين
مناقشتي في موضوع الإبرة الصينية التي في كتفك؟
ذهلنا من مقولته فهوَّ
مازال منكراً لخطئه، فقلت له لا نحن هنا اليوم لمناقشة موضوع سلك تحديد الورم الذي
لم تتم إزالته أثناء العملية، نظر إليَّ وقال لي مرة أخرى مسكينة أنت مازلت تهولين
الأمور لأنك أصبت بالسرطان في سن صغير، هذا سلك بسيط تعايشي معه طوال عمرك ولن
يضرك، أنا لن أقوم بإزالته لك، ستكون عمليه معقدة مجهولة النتائج. صحيح أنه أجرى
العملية بإتقان منقطع النظير وساهم في تثقيفي حول مرضي وزودني بمعلومات هامة كنت
لن أجدها لدى جراح آخر, لكنني
تعجبت
كثيراً من موقفه وقوله فهوَّ من قال لي أنني سأحتاج عمل تصوير بالرنين
المغناطيسي MRI كل ستة أشهر كفحص دوري
لسرطان الثدي بسبب تاريخي المرضي والأسري وصغر سني (تحت سن الأربعين)، في حالتي ال
MRI وسيلة لا تقل أهمية عن
الماموجرام والفحص بالموجات فوق الصوتية، وقد يكون أكثر دقة كذلك. و المصيبة الكبرى أن هوَّ من طلب فحص ال MRI لي وهوَّ من قام معي بتعبئة الاستبيان الذي يتم عمله قبل الفحص لنفي وجود أي معادن في جسدي!
قلت
له يا دكتور احترم أنك كوالدي ولكن الاعتراف بالحق فضيلة ولكل جواد كبوة، لاحظت
تغير قسمات وجهه ولاحظت كيف شعر بالضيق من كلماتي، لكنني لم أقل شيئاً خاطئاً.
طلبت منه تقريراً مفصلاً بما حدث، لكنه رفض في البداية، وحينها لم يستطيع والدي أن
يتمالك نفسه، فالتقرير أبسط حق من حقوقي، قال له سامحك الله لم تراعي أنها كابنتك
ولَم تراعي أنني ووالدتها رحمها الله زملاء لك في المهنة وقبل كل هذا لَم تراعي
أمانتك أمام الله كطبيب، حسبي الله ونعم الوكيل.
خرجنا
من عنده ونحن في ذهول وتوجهنا لمدير المستشفى ولَم يكن متعاوناً أيضاً وقال أنا
طبيب ولكنني الآن تاجر وهذه الأمور لا تعنيني كثيراً؟ ماذا تريدون؟ تريدون أن نطلب
من طبيب آخر إزالة السلك على حساب المستشفى؟ الطبيب لديه تأمين ضد الأخطاء الطبية
ومقاضاته لن تفيدكم شيئاً. فقلنا له أن مطلبنا هوَّ تقرير عما تم تركه في جسدي
وأننا فقط نريد إعلامه عن هذا الخطأ لكيلا يتكرر مع أحد غيرنا. نظر إلينا وقال بما
معناه " خطأ كهذا لن يهمني فمع هذا الجراح نجني الملايين وهوَّ جراح ماهر.
ازددنا ذهولاً من موقفه أيضاً.
كان
هذا الموقف شديداً عليَّ كشدة خبر تشخيصي بسرطان الثدي. أصبت بصدمة شديدة عندما
رأيت القيم تنهار أمامي وبجانبها تترنح الأمانة وبقربهم يحتضر الضمير.
كان
الموضوع أصعب عليَّ لأن والدي ووالدتي رحمها الله أطباء استشاريين، ومنذ نعومة
أظافري وأنا أسمع عن قسم الأطباء، أخلاقيات المهنة وقبل هذا كله مخافة الله
ومراقبته في ممارسة المهنة.
أفكار
كثيرة تجول في ذهني، شعرت حينها أنني مرضت أكثر. من شدة الضغوط النفسية المتتالية،
أصابني الغثيان وغزتني نوبة من متلازمة التقيء الدوري التي أعاني منها، عندما تبدأ
النوبة لا تتوقف ويستمر القيء عشرات المرات، تماماً كفرط القيء الذي أصابني في
حملي. من شدة القيء أصابني الجفاف واستدعى ذلك تنويمي بالمستشفى لأخذ المحاليل.
رغم شدة تعبي وألمي، مازلت لا أستطيع استيعاب الموضوع هل كان كبرياء هذا الطبيب
أهم من مصلحتي وحياتي!
شعرت
بالغبن والظلم لكني تذكرت أنه إن نامت عين الظالم فعين الله لا تنام وعند الله
تجتمع الخصوم. تذكرت
كيف دعوت الله باكية وبحرقة ٍ أن يظهر الحق قبل مواجهة الجراح وأن يربط على قلبي,
دعوت بدعاء أنس ابن مالك الذي أهدته لي إحدى قريباتي عندما رأت اشتداد كربي, دعوت
به في سجودي في يوم الجمعة وأنا أتحرى ساعة الإجابة ودمعي ينهمر على سجادتي, وكلي
ثقة بأن الله لن يضيعني.
كانت هذه التجربة من أشد التجارب إيلاماً في رحلة مرضي ولا تكاد تقل في وقعها على نفسي من وقع خبرإصابتي بسرطان الثدي.
تعلمت
درساً لن أنساه, وهوَّ أنني بعد التوكل على الله عليَّ أن أكون أكثر وعياً بأموري
الصحية وأن أقوم بالاطلاع على تقاريري الطبية بدقة ولا يكون اعتمادي اعتماداً
كاملاً على الأطباء فهم بشر يصيبون ويخطئون وكأي مهنة من المهن قد نجد في مهنة
الطب من لا يراعي أخلاقيات المهنة ومواثيقها للأسف. لم تكن مشكلتي أن الطبيب الجرح قد وقع منه خطأ طبي، مشكلتي كانت في موفقه و إنكاره و تضليله.
بعد
خروجي من المستشفى ذهبت لاستلام التقرير الخاص بحالتي بعدما تم طلبه من مدير
المستشفى،
وكانت
صدمتي كبيرة عند قراءتي للتقرير، لم يكتب فيه الطبيب الحقيقة للأسف بل ادعى أن
السلك قد كُسِرَ خطئاً في قسم الأشعة، ونسي أن لدينا أشعة ماموجرام تنفي كلامه
الخاطئ وتوضح أن السلك لم يكن مكسوراً قبل العملية! يا إلهي، لم أتصور أن كبريائه
منعه من أن يكون صادقاً في كتابة تقرير طبي! ولم يوضح ما المقدار الذي تم تركه.
توجهت
لطبيب جراح آخر، سمعت عنه كل خير، اطمأننت أكثر لأنه والد زميلة من زميلات الدراسة
وزميل والديَّ. دخلت عيادته ورحب بي، كان حديثه معي كحديث والد لابنته، ارتحت
كثيراً لنبرة صوته الهادئة وطمأنني أن العملية سهلة بإذن الله وليست صعبة ومجهولة
النتائج كما قيل لي سابقاً. تحدث الطبيب معي كثيراً وشرح لي بالتفصيل كيف ستكون
العملية وأعطاني من وقته الكثير. بعد تحديد موعد العملية، خرجت مسرورة الخاطر
مطمئنة القلب وأنا في أشد الإعجاب بأخلاق هذا الطبيب وأسلوبه الراقي في التعامل مع
مرضاه. في خضم انشغالي بموضوع السلك وإزالته تذكرت شيئاً مهماً، ألا وهوَّ موعدي
عند طبيب الأورام، راجعت أوراقي خشية أن أكون قد نسيته ففي ذلك الزمن لم تكن هناك
هواتف ذكية تعيننا في تسجيل المواعيد وتذكيرنا بها. وجدت أن الموعد قبل موعد عملية
إزالة السلك. اقترب الموعد وأنا أفكر ماذا عسى هذا الموعد أن يحمل لي معه أرجو ألا
تكون هناك مفاجآت أخرى.
- اعتذر عن ذكر اسم الطبيب والمستشفى و أرجو التفهم وعدم الإحراج، فالهدف التوعية لا التشهير.
ملاحظة:لكتابة تعليق الرجاء الضغط على عنوان المقال بالأعلى أو كلمة تعليقات أسفل المقال ليظهر المكان المخصص للتعليقات.
ملاحظة:لكتابة تعليق الرجاء الضغط على عنوان المقال بالأعلى أو كلمة تعليقات أسفل المقال ليظهر المكان المخصص للتعليقات.
ملاحظة:لكتابة تعليق الرجاء الضغط على عنوان المقال بالأعلى أو كلمة تعليقات أسفل المقال ليظهر المكان المخصص للتعليقات.
ردحذفقصتك ملهمه 🤍 الله يحفظك يارب ويتمم عليك عافيته ، قرأت لك قبل 4 سنوات وانا اتعالج كيماوي وعطيتيني امل كبير وحُب للحياه وثقه بالله ، كل فتره ارجع اقرأ لك واتطمن عليك ♥️ محبتي وتقديري لك 🤍🤍 أم الجوهره
ردحذف