السابع والعشرون
من ديسمبر
27/12/2004
27/12/2004
وجاء اليوم المحدد لأخذ العينة وإجراء العملية الجراحية. قبلت
صغاري واحتضنتهم وشممتهم مودعة وسائلة الله السلامة والعافية من أجلهم. ذهبت قبلها
لقسم الأشعة لعمل ما يُسمى ب Localization
لتحديد موقع الورم عن طريق أسلاك حديدية تنتهي بخطاف يتم غرسه في الورم عن طريق
تتبع موقعه بالموجات فوق الصوتية، ويساعد ذلك الطبيب الجراح للوصول للورم مباشرة
بتتبع الأسلاك، فلا يضطر لعمل فتحة كبيرة للبحث عن الورم. كانت عملية التحديد
مؤلمة بعض الشي، بالذات وأنا أشاهد الأسلاك أثناء غرسها في جسدي وأرى قطرات الدم
المنسكبة أمامي. فجأة لاحظت ارتباك الطبيبة وأخذتني لعمل أشعة الماموجرام، خرجت من
هناك وفي ثديي اثنين من الأسلاك المعدنية، لم أهتم بما حدث، ولكن ما يهمني الآن
العينة والجراحة، ذهبت مسرعة للمستشفى لإجراء العملية. تمت تهيئتي وأخذي لغرفة
العمليات، كانت أنوار كشافات غرفة العمليات تنعكس في عينيَّ، بدأت تخفت مع ابتداء
مفعول المخدر وأنا أدعو الله وأقرأ آية الكرسي والمعوذات والأذكار ليطمئن قلبي،
فشعور بداية فقدان الوعي مع التخدير يفزعني، بدأت أغيب عن الوعي وصوت أبي الغالي
يرن في أذني بالأذكار فلقد حفظتها منذ نعومة أظافري عن ظهر قلب سماعياً من كثرة
ترديده لها. غبت عن الوعي وأنا لم انته من أذكاري بعد.
أفقت من العملية شعرت بثقل وألم شديدين في ثديي، يبدو أنه تم إجراء
عملية جراحية كاملة ولم يكن الموضوع خزعة فقط. كنت خائفة جداً أن يكون قد تم
استئصال الثدي كاملاً, لكن على ما يبدو أنه قد تم استئصال الورم فقط. وجدت أبي الغالي وزوجي بجانبي، رغم أنني كنت
تحت تأثير المخدر، إلا أنني لاحظت تغيراً في قسماتهم، ورأيت مسحة حزن تعلو وجوههم،
ماذا حدث وما الخطب يا ترى؟ توجهت بسؤالي لهم، كانت إجابتهم أنهم كانوا قلقين
وينتظرون إفاقتي. سألت عن النتيجة، قالوا لي سيمر عليك الطبيب في المساء لنعرف
النتائج سوياً. تم نقلي لغرفتي الخاصة. كان انتظار المساء لمقابلة الطبيب أمراً
صعباً، دعوت الله كثيراً أن يطمئن قلبي وأن ينزل سكينته علي، خلدت للنوم بسبب
تأثير المخدر فمضى الوقت سريعاً.
التشخيص و الصدمة
استيقظت على طرق الباب ودخول الممرضات وقولهم
الطبيب هنا، ارتديت حجابي وقلبي يخفق بسرعة وبشدة وكأنه سيخرج من صدري، تصبب العرق
على جبيني وكانت يداي ترتجفان، أهوَّ القلق أم إرهاق ما بعد الجراحة أم لأنني لم
أستطع النوم ليلة الأمس.
بدأ الطبيب في الحديث: حمداً لله على السلامة، لقد أخذنا عينة
وبسبب نتيجتها، قمنا بإزالة الورم ووجدنا أنه ورم خبيث، أنت مصابة بسرطان الثدي.
زوجك طلب مني أن يكون هوَّ من يبلغك، لكنني أحب إبلاغ مرضاي بنفسي.
هكذا وبدون محاولة لتلطيف الجو وبدون مقدمات، أهداني الطبيب خبر
إصابتي.
وقع الخبر عليَّ كوقع الصاعقة شعرت بدوار شديد وضيق في صدري
وانهمرت الدموع من عينيَّ وأنا لا أرى أمامي سوى صورة صغاري الرضع، ألهمني الله
تعالى أن أقول" اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها”، فهذا ما كانت
تفعله أمي الغالية رحمها عند حلول المصائب، ولعل قوتها وثباتها ورضاها بالقضاء
والقدر كان من أقوى وأهم الدروس التي غرستها فينا في تربيتها لنا وكانت خير قدوة
لنا في ذلك. كان أطباؤها يسمونها المرأة الحديدية. تذكرت كيف كانت إذا شعرت بالألم
تقول يا الله و يا حيَّ يا قيوم برحمتك أستغيث, بدلاً من قول آه, وبدأت أتماسك.
أكمل الطبيب حديثه قائلاً: "لكن الخبر الجيد أننا اكتشفنا
المرض في مرحلة مبكرة جداً والخبر السيء أن الورم نشط جداً وسريع الانتشار
والورم من نوع
Invasive Ductal Carcinoma
أنصحك بعدم السفر لأن الدخول للنظام الصحي في كندا صعب في
البداية وستحتاجين الدعم أثناء علاجك وأنت معك طفلين صغيرين بالذات إذا قرر أطباء
الأورام أن عليك تلقي العلاج الكيمياوي ولكني اعتقد أن الورم صغير جداً، فلا
تجعليهم يضحكون عليك ويعطوك علاجاً كيماوياً. لقد تم استئصال الورم فقط وليس الثدي
كاملاً لكن يجب أن تفكري مستقبلاً باستئصال الثديين كإجراء وقائي بسبب صغر سنك وبسبب
التاريخ الأسري وعليك أيضاً إجراء الفحص الجيني. لم أكن أحتاج أن اسمع هذه
العبارات الأخيرة فيكفني الآن وقع الصدمة بعد معرفة التشخيص.
خرج الطبيب وأنا مازلت أبكي، احتضنت والدي وزوجي ونحن يعلونا
الصمت، فما عسانا أن نقول تحت وقع هذه الصدمة.
حاول زوجي أن يتماسك، وقال: ستكونين بخير، الحمد لله أنه تم اكتشاف
المرض مبكراً وربنا أكرم الأكرمين، لا تبكي ولا تحزني. أعرف أن أسلوب الطبيب لم
يكن جيداً في نقل الخبر لك وليتني لم أستجب لطلبه وقمت أنا بإبلاغك بدلاً عنه.
وكيف لي ألا أبكي وكيف لي ألا أحزن، الحمد لله على كل
حال ولكن ما بلغ مسامعي للتو كان خبراً صاعقاً، تذكرت أمي رحمها الله
ومعاناتها مع المرض وكيف كانت معاناتنا بعد فقدها ولا أريد أن يعاني أبنائي، تذكرت
الألم والمعاناة والموت ودعوت الله أن يربط على قلبي. رغم مرض أمي ووفاتها، لم
أفكر من قبل أنني في يوم ما قد أصاب بنفس مرضها حاولت توجيه تفكيري باتجاه آخر وقلت
ولا يعني بالضرورة أن مرضك ومعاناتك ستكون بنفس درجة ومعاناة أمك رحمها وأصابتك
بالمرض لا تعني الموت
فقد مرت عليَّ قصص سيدات نجاهن الله من المرض. تذكرت أيضاً أن سبب
وفاة والدتي هوَّ سرطان المبيض وليس سرطان الثدي، فلأحسن الظن بالله وسيكون الله
تعالى عند حسن ظني.
مما أحزنني أيضاً، هوَّ أنني على الأغلب لن أسافر مع زوجي إلى كندا
وسيتشتت شمل أسرتنا.
كانت ليلة ليلاء تلك التي قضيتها في المستشفى.
وحل الشتاء
جاء اليوم التالي، وخرجت من المستشفى وكلي شوق لصغاري، عدت للمنزل
وأخذتهم في أحضاني قبل أن أخلع عباءتي، كان احتضانهم وحملهم صعباً ومؤلماً بسبب
جرح العملية ورغم أنه بسيط، إلا أنني أشعر بآلام رهيبة في القفص الصدري.
الحزن يخيم على جميع من في المنزل، وبعد النقاش قررت أن أبقى في
جدة لتلقي العلاج. لم يبق إلا أيام قلائل على موعد سفرنا المقرر، كان عليَّ الآن
أن أبدأ بفصل أمتعتي أنا والأولاد عن أمتعة زوجي. لم تكن هذه العملية سهلة أبداً،
كنت أفصل أمتعتنا وكأنني أفصل أجزاءً من قلبي، ألملم أغراضي وألملم معها ألمي
وحزني ومشاعري المختلطة المبعثرة. كلما جالت في خاطري الأفكار وانهمرت الدموع من
عيني كالأمطار كنت أسجد لله تعالى وأدعوه أن ينزل اللطف مع قضاءه ويهون عليَّ
رحلتي القادمة.
تذكرت أن صديقتي رأت أثناء حملي
رؤية، رأت فيها أمي في برج عالي صعدت إليه بشق الأنفس وعندما وصلت لأعلى البرج
استراحت، رأتني وأنا أصعد لأمي بمشقة بالغة إلى أن وصلت واسترحت معها. سألت صديقتي
عن تفسير هذا الحلم ففسروه لها أنني قد أُبْتلى مثل والدتي وعسى أن يكون تفسير ذلك
أن بصبرنا على الابتلاء سيبلغنا الله أجراً عظيماً ومكاناً عالياً في الجنة. قالت
لي ذلك مخففة عني الحزن و الألم الذي كنت أقاسيه في حملي فحينها ظننت الابتلاء هوَّ
ما كنت أواجهه الآن في حملي، ولَم يخطر على بالي أنني سأُبتلى بنفس ابتلاء أمي،
مرض السرطان.
واجهت في حملي بما يسمى بفرط القيء في الحمل Hyperemesis Gravidarum ويسميها زوجي الحالة الكئيبة وتصل مرات القيء إلى أربعين مرة في اليوم ويتطلب ذلك التنويم بالمستشفى لأخذ المحاليل بالذات في الست الشهور الأولى من الحمل، كنت أصاب بجفاف شديد ويصعب على الممرضات إيجاد وريد لوضع المحاليل ويلجؤون لساقي بدلاً من ذراعي. تستمر مشكلة فرط القيء عندي أثناء الولادة وتستمر شهراً بعدها. أتذكر أنني مرة مكثت شهراً متواصلاً في حملي الأول. وكان وزني يتناقص حوالي عشرون كيلوجراماً.
واجهت في حملي بما يسمى بفرط القيء في الحمل Hyperemesis Gravidarum ويسميها زوجي الحالة الكئيبة وتصل مرات القيء إلى أربعين مرة في اليوم ويتطلب ذلك التنويم بالمستشفى لأخذ المحاليل بالذات في الست الشهور الأولى من الحمل، كنت أصاب بجفاف شديد ويصعب على الممرضات إيجاد وريد لوضع المحاليل ويلجؤون لساقي بدلاً من ذراعي. تستمر مشكلة فرط القيء عندي أثناء الولادة وتستمر شهراً بعدها. أتذكر أنني مرة مكثت شهراً متواصلاً في حملي الأول. وكان وزني يتناقص حوالي عشرون كيلوجراماً.
كان تفسير الأطباء أن هذا هوَّ تفاعل جسدي مع تغير مستوى
الهرمونات. لم تجدي معي جميع الأدوية
إلا دواء واحد لا يباع إلا في كندا كان منقذاً لي بعد الله تعالى
وخفف عني كثيراً والحمد لله يسر الله وجود أحد الأقرباء المبتعثين لدراسة الطب في
كندا، فقد كان يشحنه لنا مشكوراً إلى السعودية خلال حملي الأول والثاني. تعبت
كثيراً في حملي لكنني كنت موقنة أن لله حكمة من هذا الابتلاء، ربما يعدني لمواجهة
أمرٍ ما أشد وأصعب. عرفت هذه الحكمة يوم إصابتي بالسرطان.
تذكرت أيضاً صديق زوجي الذي اتصل ليطمئن على زوجي بعد تشخيصي،
وهوَّ لا يعلم عن مرضي شيء
وأخبر زوجي أنه رآه في المنام يواجه حريقاً كبيراً. لعل ذلك الحريق
هوَّ السرطان الذي غزا أسرتنا الواعدة وشتت شملها.
كنت أخشى شتاء كندا القارس لكن الآن حل شتاء قارس في ربيع عمري،
شتاءٌ من نوع آخر. نحن في فصل الشتاء فعلياً لكن شتاء جدة ربيع لطيف، ولكنني كنت
أعيش برد الشتاء وادعو الله أن يداويني ببرد اليقين.
ملاحظة:لكتابة تعليق الرجاء الضغط على عنوان المقال بالأعلى أو كلمة تعليقات أسفل المقال ليظهر المكان المخصص للتعليقات.

ملاحظة:لكتابة تعليق الرجاء الضغط على عنوان المقال بالأعلى أو كلمة تعليقات أسفل المقال ليظهر المكان المخصص للتعليقات.
ردحذف