السبت، 12 يناير 2019

شتاء في ربيع العمر:الحلقة الأولى

الحلقة الأولى
البداية: الظهران


 بدأت أحداث قصتي في مدينة الظهران بالمنطقة الشرقية، قبل أربعة عشر عاماً, عندما كنت في نهاية عامي الثالث والعشرين وأم لطفل  يبلغ من العمر ثمانية عشر شهراً ورضيع  يبلغ من العمر ثلاثة أشهر ومضى على زواجي حوالي ثلاث سنوات تقريباً.
كان زوجي قد أنهى مرحلة الماجستير وحصل على قبول في جامعة واترلوو بكندا لتحضير درجة الدكتوراة. بدأت حزم أمتعتي وإخلاء منزلي. كان همي الأكبر في تلك الفترة هوَّ إيجاد صناديق فارغة لأملأها بأغراضنا المتناثرة في أرجاء المنزل.  
بالرغم أننا لم نسكن مدة طويلة في هذا المنزل، فقد سكنَّا فيه أقلَ من عامين، إلا أن الأغراض تعد نوعاً ما كثيرة بسبب وجود طفلين صغيرينحمدت الله أنني سمعت نصيحة خالتي الغالية ولم أؤثث المنزل واكتفيت بأثاث سكن الجامعة البسيط، حيث أنني كنت أعلم أن سكننا هنا سيكون مؤقتاً وسنسافر للبعثة
كان المنزل عبارة عن ساحة مليئة بالصناديق التي اتخذها صغيري لعبة، فتارة يختبئ داخلها ومرة يضع ألعابه داخلها ولكن الكارثة العظمى, هيَّ عندما  يستخرج كل ما قمت بترتيبه من داخل أحد الصناديق أو حقائب السفر، ثم يصفق فرحاً بإنجازه المضاد لإنجازي. كانت متعة بالنسبة له تعلو على متعة اللعب بألعابه المعتادة.
كان العمل على قدم وساق ما بين ترتيب وركض وراء طفلي أو اهتمام برضيعي، الذي كنت أحياناً اضطر لحمله في حمالة الأطفال وأنا أرتب الأغراض لأحميه من أخيه الذي كان يظنه دمية للعب وليهدأ ويشم رائحتي فينام هانئاً قرير العين على صدري.
كان همي الآخر التسوق لشراء ملابس شتوية لتقينا من برد كندا القارس، فنحن سنسافر في شهر يناير حيث يشتد الشتاء. صديقتي الغالية أبرار التي سبقتني إلى كندا، واستقرت في مدينة فانكوفر التي تعد من أدفأ المناطق في كندا، ورغم ذلك لازلت أتذكر مكالمتها لي وهيَّ تصف  لي شتاء كندا القارس، وكيف أصابتها صدمة عند خروجها من باب المطار من لفح الهواء البارد ومن منظر الثلوج البيضاء التي تغطي كل شيء
مجرد تذكري لكلمات أبرار يشعرني بالبرد وكأن ذلك الهواء البارد يلفح وجه.
كان أمر الترتيب والتسوق صعباً مع انشغالي بصغاري، وفِي أوج انشغالي شعرت بوخز غريب كوخز الإبر في ثديي الأيمن، استمر وتكرر لعدة أيام وبدأ القلق يدب في نفسي.  تذكرت أمي رحمها الله وإصابتها بسرطان الثدي وأنا بالمرحلة الابتدائية. لم أكن متشائمة ولكن الاحتياط واجب، فإصابة قريبة لي من الدرجة الأولى يجعلني أكثر عرضة للإصابة من غيري. والشيء الذي جعلني متفائلة أكثر هوَّ أنني صغيرة بالسن، فقد كنت أحسب أن هذا المرض يصيب النساء اللاتي أعمارهن فوق سن الأربعين.تذكرت أيضاً إصابة أمي رحمها الله بسرطان المبيض وأنا بالمرحلة المتوسطة، وكيف أنه كان هناك اشتباه في كيس صغير في المبيض
 وكان عليها متابعته ولكن قدر الله وماشاء فعل، انشغالها بعملها كطبيبة وأستاذة جامعية وانشغالها بِنَا كأم، أثناها عن المتابعة، حتى تفاقم المرض وانتشر وأدى إلى وفاتها. في ذلك الزمن، قبل ما يقارب خمسة وعشرون عاماً، لم يكن هناك وعي حول ارتباط سرطان الثدي والمبيض لدي السيدات الشابات اللاتي أصبن بسرطان الثدي قبل سن اليأس ولديهن عامل وراثي. ولم تكن هناك توعية كافية حول أهمية فحص المبيض مع فحص الثدي أو اقتراح عمل عمليات جراحية وقائية لتجنب خطر الإصابة بسرطان المبيض. ما حدث لأمي رحمها الله, كان درساً قاسياً جعلني أفكر مراراً و تكراراً في أن أقوم بأخذ استراحة من الترتيبات و أذهب للطبيبة للاطمئنان.
كنت أتنقل بين الأسواق مع صديقة عزيزة لشراء الملابس الشتوية، أخبرتها في ذلك اليوم أنني أنوي الذهاب للطبيبة. وجاء ذلك اليوم، وذهبنا سوياً ونبضات قلبي تتسارع وأنا في غرفة الانتظار. عندما جاء دوري أخبرت الطبيبة بمخاوفي وبوجود تاريخ أسري، وأن لديَّ أقارب من الدرجة الأولى أصبن بسرطان الثدي، لكن كان ردها، أنت شابة صغيرة وعمرك ثلاثة وعشرون عاماً ومن الطبيعي أن تشعري بآلام كأم مرضعة وسرطان الثدي يأتي عادة ًبدون ألم، وأيضاً لم أَجِد أي كتلة محسوسة.
أخبرتها أن هذه الآلام تختلف عنما عهدته في طفلي الأول وطلبت عمل أشعة الموجات فوق الصوتية لكنها رفضت. خرجت إلى صديقتي وأخبرتها بما حدث وأنني لازلت قلقة وأريد عمل الأشعة ولكن انشغالي الشديد في هذه المرحلة الانتقالية بدد غيوم قلقي.
تذكرت قبل الشعور بالألم، أنني أُصبت بطفح جلدي شديد وتشققات مؤلمة ونازفة، وكان التشخيص التهاباً فطرياً انتقل لي من فم المولود الجديد أثناء الرضاعة. كانت مواجهة هذا الالتهاب أليمة، استمرت لأشهر، حاولت الصمود لكي استمر في إرضاع مولودي لمعرفتي بفوائد الرضاعة الطبيعية وأهميتها، وأثرها الإيجابي على الصحة الجسدية والنفسية للمولود حالياً ومستقبلياً

في جدة
مر شهرين من زيارتي للطبيبة، انتقلنا إلى جدة لنودع الأهل والأحباب قبل سفرنا إلى كندا. كان ذلك في نهاية شهر ديسمبر من عام 2004 وكان موعد سفرنا هوَّ الرابع من شهر يناير للعام 2005
مازال الألم موجوداً في ثديي الأيمن ولَم يفارقني، لكن شدة الانشغال جعلتني أتجاهله. تحدثت مع أبي الغالي فنصحني أن أذهب لعمل أشعة الموجات فوق الصوتية، ففي كلا الحالين لن أخسر شيئاً بإذن الله، إن كانت النتيجة سليمة فالحمدلله , وإن كانت هناك مشكلة فالاكتشاف المبكر أفضل وقال لي اذهبي و اطمئني يا ابنتي، لا نريد أن تتكرر مأساة والدتك رحمها الله.
ذهبت للموعد المنتظر وبدأت الطبيبة بالفحص وكانت الطبيبة التي أجرت لي هذا الفحص هيَّ نفسها التي أجرت لي الفحص الأول لرؤية الجنين وسماع نبضه في حملي الأول منذ عامين تقريباً، استبشرت خيراً فهنا ,في نفس هذا المكان كانت إحدى بدايات فرحتي الأولى و هنا لاحت لي تباشير الأمومة عندما سمعت نبضات قلبه للمرة الأولى.
لكن حدث ما كدر صفو تفاؤلي، عندما أعادت الطبيبة سؤالها مرة أخرى، " أنت عمرك ثلاثة وعشرون ، صح ؟ " فأجبتها بنعم ، تغيرت قسمات وجهها وقالت أنت صغيرة و خير إن شاء الله.  ما أراه ليس مطمئناً ،يبدو أنها كتلة صلبة جدارها يبدو غير منتظم، أرجو منك مراجعة الطبيب الجراح و عمل أشعة الماموجرام.
تم حجز الموعد مع الطبيب يُعد من أفضل المتخصصين في مجال جراحة الأورام بالذات جراحة أورام الثدي
عدت لشقة أهل زوجي في جدة. فقد جاءوا ليسلموا علينا قبل السفر، وهناك انتقلت الصناديق والحقائب التي في الظهران، فعليَّ القيام بفرزها لترك البعض في منزل والدي والآخر في منزل أهل زوجي وما تبقى سيكون من ضمن أمتعة السفر أو الأمتعة التي سيتم شحنها إلى كنداكان المكان مزدحماً متكدساً بالأغراض كتكدس تلك الأفكار في رأسي. كنت أحاول الهروب من هذه الأفكار بالغوص في أعماق أمتعتي المتناثرة كانت لدي قائمة بزيارات للأقارب والصديقات للوداع قبل السفر. قد يساعد الانشغال أحياناً في حالات التوتر والقلق، لكن وإن طال الهروب فالمواجهة قادمة لا محالةكنت أعد الأيام قبل موعدي مع الطبيب.
فأنا أريد الانتهاء من هذه القضية والاطمئنان بسرعة، فقد تبقت أيام قلائل على موعد سفرنا.
وجاء الموعد المنتظر وقابلت الطبيب. كنت متوترة قلقة من الفحص لأنه طبيب وليس طبيبة، وبالرغم من أنه رجلٌ وقورٌ بعمر والدي تقريباً، إلا أنني كنت في قمة الأحراج أثناء الكشف، فهذه المرة الأولى التي اضطررت أن أكشف فيها عند طبيب رجل على منطقة خاصة من جسدي، 
ولكن لم يكن لدي خيار آخر وهذه ضرورة. دعوت الله وقتها بأن يسترني بستره. أخبرني الطبيب بأنه لا توجد كتلة محسوسة، 
ولكنه لم يكن مطمئناً من نتيجة الموجات فوق الصوتية بسبب شكل وطبيعة الكتلة المرئية، وأكد على ضرورة عمل أشعة الماموجرام وأشعة الرنين المغناطيسيأخبرنا أنها ستعطينا دلائل أكثر عن طبيعة الكتلة التي تم اكتشافها. وأخبرنا أن التصوير بالرنين المغناطيسي أفضل وأدق للسيدات الشابات اللاتي تقل أعمارهن عن سن الأربعين واللاتي لديهن تاريخ أسري لسرطان الثدي. أكد الطبيب أيضاً أنه يجب أخذ عينة من الكتلة، فالاحتياط واجب مع تاريخي الأُسَري. قام بتحويلنا لعمل أشعة الماموجرام والرنين المغناطيسيكنت قلقة بعض الشيء من هذه الفحوصات التي سمعت عنها ولا أدري كيف يكون إجراؤها.
أصبحت مشتتة بين حزم الأمتعة وفرزها والقيام ببعض الزيارات وبين مواعيد المستشفى التي لها الأولوية.وجاء موعد الماموجرام  والحمدلله أن القائمات على القسم سيدات، لكي لا أتكشف مرة أخرى
ارتديت قميص المستشفى المفتوح من الأمام ووقفت أمام ذلك الجهاز ساعدتني الممرضة في الوقوف وقفة صحيحة وطلبت مني عدم التحرك وقامت بشرح العملية لي. الجهاز سيتم ضبطه بحيث يقوم بضغط الثدي ليصبح منبسطاً، مما يسمح للأشعة السينية باختراقه للتصويروعندما بدأ عمل الجهاز كان الضغط مؤلماً أكثر من توقعاتي لكن كما يقولون " ألم ساعة ولا كل ساعة"، ألم الضغط للحظات قصيرة سيكون بالتأكيد أخف بكثير من مرض السرطان إذا لم يتم اكتشافه في مرحلة متقدمة.
لازلت أذكر تلك اللحظات، برودة الغرفة، رائحتها وتفاصيلها. بعد انتهاء الفحص طلبت مقابلة طبيبة الأشعة، وأخبرت فنية الأشعة أن سفري لكندا بعد أيام. أخذتني للطبيبة وشعرت ببعض الاطمئنان عند رؤيتها فهيَّ زميلة عزيزة لوالدتي الغالية رحمها الله 
وكانت أمي تحبها كثيراً و تثق في رأيها فترة مرضها  .ووقفت أمام شاشات عرض صور الأشعة، كررت الطبيبة نفس السؤال الذي أصبح يتكرر في كل موعد أو فحص مؤخراً، " أنت تقريباً في الرابعة والعشرون من عمرك، صحيح"، قلت: نعم، نظرت لي وصمتت لبرهة وقالت: الكتلة متكلسة و يجب أخذ عينة منها والحمدلله أننا استطعنا أن نراها لأنك أم مرضعة 
 وامتلاء قنوات الحليب لديك قد يؤثر على التصوير. شكرت الطبيبة توجهت لعمل موعد أشعة الرنين المغناطيسي
للأسف المواعيد بعيدة جداً. عدت للمستشفى الآخر للطبيب الجراح واكتفى بالفحوصات التي أجريتها وحدد موعد أخذ العينة 
وإزالة الورم حسب نتيجة العينة. كان الموعد في السابع و العشرون من شهر ديسمبر،في قبل موعد سفرنا بأسبوع
كانت أسئلتي كلها تدور حول مدة التعافي بعد الجراحة وهل يمكنني أن أسافر مباشرة؟ هل يمكنني ارتداء حمالة الأطفال لحمل صغيري أثناء السفر، رغم كل المؤشرات التي لم تكن مطمئنة، كنت استبعد احتمالية أن يكون ذلك ورماً خبيثاً، لحسن ظني في الله أولاً ثم كنت متفائلة بسبب صغر سني، وكنت متحمسة للسفر وللمرحلة الجديدة التي أنا مقبلة عليها.
أخبرني الطبيب أنه يجب أن أتوقف عن الرضاعة لتهيئتي للعملية الجراحية، وكتب لي دواءً لتجفيف الحليبحزنت جداً لحرصي على إرضاع صغيري وحزنت أكثر أن فطامه سيكون قاسياً بهذه الطريقة المفاجئة ودون تدرج أو مقدمات وهوَّ لم يتجاوز خمسة أشهر. حزنت جداً فالرضاعة الطبيعية هيَّ من أفضل ما يمكن أن تقدمه الأم لصغيرها، 
وهيَّ ليست مجرد غذاء بل هيَّ من أهم مقومات علاقة الحب التي يتم بناؤها لتستمر وتكبر مع الطفل في جميع مراحل حياته،
بكل ما فيها من لمسات ونظرات وضحكات، فتؤدي على الارتباط العاطفي السليم بين الأم والطفل وتؤدي إلى نمو طفل صحي جسدياً ونفسياً. سألت الله أن يعوض صغيري خيراً، فما باليد حيلة.
عدت للمنزل وبدأت في أخذ الدواء، أصابتني أعراض جانبية شديدة منهعانيت من قيء وغثيان شديدين، ولَم أستغرب ذلك فجسدي يتحسس كثيراً من التغيرات الهرمونية وهذا ما واجهته في حملي.
 كنت أحمل صغيري لإرضاعه من القارورة فيرفضها ويبكي بكاءً شديداً، نصحتني الطبيبة أن يقوم أحد غيري بإرضاعه لأنه كلما شم رائحتي سيبكي اشتياقاً لحليبي وسيكون ذلك صعباً عليه. تناوبت أم زوجي وأخواته في إرضاعه وكان ينظر لهم ويبكي ويرفض الرضاعة. كانت فترة عصيبة علينا جميعاً.

هناك تعليق واحد:

  1. ملاحظة:لكتابة تعليق الرجاء الضغط على عنوان المقال بالأعلى أو كلمة تعليقات أسفل المقال ليظهر المكان المخصص للتعليقات.

    ردحذف

أسعد بمروركم و تعليقاتكم
ملاحظة:لكتابة تعليق الرجاء الضغط على عنوان المقال بالأعلى أو كلمة تعليقات أسفل المقال ليظهر المكان المخصص للتعليقات.